تدبر القرآن .. لماذا .. وكيف
تدبر القرآن .. لماذا .. وكيف ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
تدبر القرآن .. لماذا .. وكيف ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإن
تدبر القرآن .. لماذا .. وكيف ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
تدبر القرآن .. لماذا .. وكيف ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها
وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما ، وتتل في يده مفاتيح
كنوز
السعادة والعلوم النافعة ، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه ، وتريه صورة
الدنيا والآخرة
والجنة والنار في قلبه ، وتحضره بين الأمم ، وتريه أيام الله
فيهم ، وتبصره مواقع
العبر ، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته
وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطيع الطريق وآفاته ، وتعرفه
النفس وصفاتها
ومفسدات الأعمال ومصححاتها ، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار
وأعمالهم
وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة .
فتشهده الآخرة
حتى كأنه فيها ، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها ، وتميز
له بين الحق
والباطل في كل ما يختلف فيه العالم ، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به
بين الهدى
والضلال ، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً
فيصير في شأن
والناس في شأن آخر ؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه
بالوعد الجميل ، وتحذره
وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتهديه في ظلم الآراء
والمذاهب إلى سواء
السبيل ، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل ، وتبصره
بحدود الحلال والحرام
وتوقفه عليها ؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل ، وتناديه
كلما فترت عزماته
: تقدمَ الركبُ ، وفاتك الدليل ، فاللحاقَ اللحاقَ ، والرحيلَ
الرحيلَ )
.
فاعتصم بالله واستعن به وقل : ( حسبي الله ونعم الوكيل ) [24]
.
وحتى نتدبر القرآن فعلينا :
1- مراعاة آداب التلاوة من
طهارة ومكان وزمان مناسبين وحال مناسبة
وإخلاص واستعاذة وبسملة وتفريغ للنفس من
شواغلها وحصر الفكر مع القرآن
والخشوع والتأثر والشعور بأن القرآن يخاطبه
.
2- التلاوة بتأنٍ وتدبر وانفعال وخشوع ، وألا يكون همه نهاية السورة .
3-
الوقوف أمام الآية التي يقرؤها وقفة متأنية فاحصة مكررة .
4- النظرة التفصيلية
في سياق الآية : تركيبها - معناها - نزولها - غريبها- دلالاتها .
5- ملاحظة
البعد الواقعي للآية ؛ بحيث يجعل من الآية منطلقاً لعلاج حياته
وواقعه ،
وميزاناً لمن حوله وما يحيط به .
6- العودة إلى فهم السلف للآية وتدبرهم لها
وتعاملهم معها .
7- الاطلاع على آراء بعض المفسرين في الآية .
8- النظرة
الكلية الشاملة للقرآن .
9- الالتفات للأهداف الأساسية للقرآن .
10- الثقة
المطلقة بالنص القرآني وإخضاع الواقع المخالف له .
11- معايشة إيحاءات النص
وظلاله ولطائفه .
12- الاستعانة بالمعارف والثقافات الحديثة .
13- العودة
المتجددة للآيات ، وعدم الاقتصار على التدبر مرة واحدة ؛
فالمعاني تتجدد
.
14- ملاحظة الشخصية المستقلة للسورة .
15- التمكن من أساسيات علوم التفسير
.
16- القراءة في الكتب المتخصصة في هذا الموضوع مثل كتاب : (القواعد
الحسان
لتفسير القرآن) للسعدي ، وكتاب (مفاتيح للتعامل مع القرآن) للخالدي ،
وكتاب
(قواعد التدبر الأمثل لكتاب الله - عز وجل) لعبد الرحمن حبنكة الميداني ،
وكتاب
(دراسات قرآنية) لمحمد قطب [25] .
وبعد : فما درجة أهمية تدبر القرآن في
عقولنا ؟ وما نسبة التدبر في واقعنا
العملي فيما نقرؤه في المسجد قبل الصلوات ؟
وهل نحن نربي أبناءنا وطلابنا على
التدبر في حِلَق القرآن ؟ أم أن الأهم الحفظ
وكفى بلا تدبر ولا فهم ؛ لأن التدبر
يؤخر الحفظ ؟
ما مقدار التدبر في دروس
العلوم الشرعية في المدارس ، خاصة دروس
التفسير ؟ وهل يربي المعلم طلابه على
التدبر ، أم على حفظ معاني الكلمات فقط ؟
تُرى : ما مرتبة دروس التفسير في حِلَق
العلم في المساجد : هل هي في رأس
القائمة ، أم في آخرها - هذا إن وجدت أصلاً
؟
ما مدى اهتمامنا بالقراءة في كتب التفسير من بين ما نقرأ ؟
لماذا يكون همُّ
أحدنا آخر السورة ، وقد نهانا رسولنا صلى الله عليه وسلم عن
ذلك ؟
ومتى نقتنع
أن فوائد التدبر وأجره أعظم من التلاوة كهذ الشعر ؟
أسئلة تبحث
عن إجابة
؛ فهل نجدها لديك ؟
القرآن هادي البشرية ومرشدها ونور الحياة ودستورها ، ما من شيء
يحتاجه
البشر إلا وبيَّنه الله فيه نصاً أو إشارة أو إيماءاً ، عَلِمه مَنْ
عَلِمه ، وجهله من جهله .
ولذا اعتنى به صَحْبُ الرسول صلى الله عليه وسلم
وتابعوهم تلاوة وحفظاً
وفهماً وتدبراً وعملاً . وعلى ذلك سار سائر السلف . ومع
ضعف الأمة في
عصورها المتأخرة تراجع الاهتمام بالقرآن وانحسر حتى اقتصر الأمر
عند غالب
المسلمين على حفظه وتجويده وتلاوته فقط بلا تدبر ولا فهم لمعانيه
ومراداته ،
وترتب على ذلك ترك العمل به أو التقصير في ذلك ، ( وقد أنزل الله
القرآن وأمرنا
بتدبره ، وتكفل لنا بحفظه ، فانشغلنا بحفظه وتركنا تدبره ) [1]
.
وليس المقصود الدعوة لترك حفظه وتلاوته وتجويده ؛ ففي ذلك أجر كبير
؛
لكن المراد التوازن بين الحفظ والتلاوة والتجويد من جهة وبين الفهم والتدبر .
ومن
ثم العمل به من جهة أخرى كما كان عليه سلفنا الصالح - رحمهم الله تعالى -
.
ولذا فهذه بعض الإشارات الدالة على أهمية التدبر في ضوء الكتاب
والسنة
وسيرة السلف الصالح .
أما التدبر فهو كما قال ابن القيم : ( تحديق
ناظر القلب إلى معانيه ، وجمع
الفكر على تدبره وتعقله ) [2] .
وقيل في معناه
: ( هو التفكر الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه
البعيدة ) [3]
.
أولاً : منزلة التدبر في القرآن الكريم :
1- قال الله -
تعالى - : " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر
أولوا الألباب " ص :
29] في هذه الآية بين الله - تعالى - أن الغرض الأساس
من إنزال القرآن هو التدبر
والتذكر لا مجرد التلاوة على عظم أجرها .
قال الحسن البصري : ( والله ! ما
تدبُّره بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى
إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ، ما
يُرى له القرآنُ في خُلُق ولا عمل ) [4] .
2- قال - تعالى - :: أفلا يتدبرون
القرآن .... " النساء : 82] .
قال ابن كثير : ( يقول الله تعالى آمراً عباده
بتدبر القرآن وناهياً لهم عن
الإعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه
البليغة : أفلا يتدبرون
القرآن ) [5] ، فهذا أمر صريح بالتدبر والأمر للوجوب
.
3- قال - تعالى - : " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته
أولئك
يؤمنون به"[البقرة : 121] .
روى ابن كثير عن ابن مسعود قال : ( والذي
نفسي بيده ! إن حق تلاوته أن
يحل حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله ) [6]
.
وقال الشوكاني : ( يتلونه : يعملون بما فيه ) [7] ولا يكون العمل به إلا
بعد
العلم والتدبر .
4 - قال - تعالى - : " ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب
إلا أماني وإن هم
إلا يظنون " [البقرة : 78] .
قال الشوكاني : ( وقيل :
(الأماني : التلاوة) أي : لا علم لهم إلا مجرد التلاوة
دون تفهم وتدبر ) [8] ،
وقال ابن القيم : ( ذم الله المحرفين لكتابه والأميين الذين لا
يعلمون منه إلا
مجرد التلاوة وهي الأماني ) [9] .
5 - قال الله - تعالى - : " وقال الرسول
يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا" [الفرقان : 30] .
قال ابن كثير : (
وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ) [10] .
وقال ابن القيم : ( هجر القرآن أنواع ...
الرابع : هجر تدبره وتفهمه ومعرفة
ما أراد المتكلم به منه ) [11]
.
ثانياً : ما ورد في السنة في مسألة التدبر :
1 - عن أبي
هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : ( ما اجتمع قوم
في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا
نزلت عليهم السكينة ،
وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن
عنده ) [12] .
فالسكينة
والرحمة والذكر مقابل التلاوة المقرونة بالدراسة والتدبر .
أما واقعنا فهو تطبيق
جزء من الحديث وهو التلاوة أما الدراسة والتدبر فهي- في نظر بعضنا - تؤخر الحفظ
وتقلل من عدد الحروف المقروءة فلا داعي لها .
2 - روى حذيفة - رضي الله عنه
- : ( أنه صلى مع النبي صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة فكان يقرأ مترسلاً إذا مر
بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ ) [13] .
فهذا
تطبيق نبوي عملي للتدبر ظهر أثره بالتسبيح والسؤال والتعوذ .
3 - عن أبي ذر
- رضي الله عنه - قال : ( صلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليلة فقرأ بآية حتى
أصبح يركع بها ويسجد بها : " إن تعذبهم فإنهم عبادك
وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " ) [المائدة : 118] [14] .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقدم التدبر على كثرة التلاوة ، فيقرأ آية
واحدة فقط في ليلة كاملة .
4 -
عن ابن مسعود قال : ( كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن
حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن ) [15] .
فهكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم
الصحابة القرآن : تلازم
العلم والمعنى والعمل ؛ فلا علم جديد إلا بعد فهم السابق
والعمل به .
5 - لما راجع عبد الله بن عمرو بن العاص النبي صلى الله عليه
وسلم في
قراءة القرآن لم يأذن له في أقل من ثلاث ليالٍ وقال : ( لا يفقه من قرأ
القرآن في
أقل من ثلاث ) [16] .
فدل على أن فقه القرآن وفهمه هو المقصود
بتلاوته لا مجرد التلاوة .
6 - وفي الموطأ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه -
( أن النبي صلى الله
عليه وسلم صلى بالناس صلاة يجهر فيها فأسقط آية فقال : يا
فلان ! هل أسقطت
في هذه السورة من شيء ؟ قال : لا أدري . ثم سأل آخر واثنين
وثلاثة كلهم يقول :
لا أدري ، حتى قال : ما بال أقوام يتلى عليهم كتاب الله فما
يدرون ما تلي منه مما
ترك ؟ هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل فشهدت
أبدانهم وغابت
قلوبهم ؛ ولا يقبل الله من عبد حتى يشهد بقلبه مع بدنه )
.
ثالثاً : ما ورد عن السلف في مسألة التدبر :
1 - روى مالك
عن نافع عن ابن عمر قال : ( تعلم عمر البقرة في اثنتي
عشرة سنة ، فلما ختمها نحر
جزوراً ) [17] .
وطول المدة ليس عجزاً من عمر ولا انشغالاً عن القرآن ؛ فما بقي
إلا أنه
التدبر .
2 - عن ابن عباس قال : ( قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأل
عن الناس
فقال : يا أمير المؤمنين ! قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا ، فقلت : والله
ما أحب أن
يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة . قال : فزبرني عمر ، ثم
قال : مه !
فانطلقت لمنزلي حزيناً فجاءني ، فقال : ما الذي كرهت مما قال الرجل
آنفاً ؟ قلت : متى ما يسارعوا هذه المسارعة يحتقوا - يختصموا : كلٌ يقول الحق عندي
-
ومتى يحتقوا يختصموا ، ومتى اختصموا يختلفوا ، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا ،
فقال
عمر : لله أبوك ! لقد كنت أكتمها الناس حتى جئت بها ) [18] ، وقد وقع ما
خشي
منه عمر وابن عباس - رضي الله عنهما - فخرجت الخوارج الذين يقرؤون القرآن ؛
لكنه لا يجاوز تراقيهم .
3 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ( كان
الفاضل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من
القرآن إلا السورة
ونحوها ورزقوا العمل بالقرآن ، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون
القرآن ، منهم الصبي
والأعمى ولا يرزقون العمل به . وفي هذا المعنى قال ابن
مسعود : إنا صعب علينا
حفظ ألفاظ القرآن ، وسهل علينا العمل به ، وإن مَنْ بعدنا
يسهل عليهم حفظ القرآن
ويصعب عليهم العمل به ) [19] .
4 - قال الحسن
البصري : ( إن هذا القرآن قد قرأه عبيد وصبيان لا علم لهم
بتأويله ، وما تدبُّر
آياته إلا باتباعه ، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده حتى إن
أحدهم ليقول : لقد
قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفاً وقد - والله ! - أسقطه كله
ما يُرى القرآن له
في خلق ولا عمل ، حتى إن أحدهم ليقول : إني لأقرأ السورة في
نَفَسٍ ! والله ! ما
هؤلاء بالقراء ولا العلماء ولا الحكماء ولا الوَرَعة متى كانت
القراء مثل هذا ؟
لا كثَّر الله في الناس أمثالهم ) [20] .
5 - وقال الحسن أيضاً : ( نزل
القرآن ليُتَدَبَّر ويعمل به ؛ فاتخذوا تلاوته
عملاً [21] . أي أن عمل الناس
أصبح تلاوة القرآن فقط بلا تدبر ولا عمل به ) .
6 - كان شعبة بن الحجاج بن
الورد يقول لأصحاب الحديث : ( يا قوم ! إنكم
كلما تقدمتم في الحديث تأخرتم في
القرآن ) [22] . وفي هذا تنبيه لمن شغلته دراسة
أسانيد الحديث ومسائل الفقه عن
القرآن وتدبره أنه قد فقد توازنه واختل ميزانه .
7 - عن محمد بن كعب القرظي
أنه قال : ( لأن أقرأ في ليلتي حتى أصبح
بـ (إذا زلزلت) و (القارعة) لا أزيد
عليهما أحب إليَّ من أن أهذَّ القرآن ليلتي هذّاً . أو قال : أنثره نثراً ) [23]
.
8 - قال ابن القيم : ( ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر
القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته ؛ فإن
الأربعاء أكتوبر 19, 2011 2:03 pm من طرف اسماء
» إيقاظ الإيمان .. كيف ؟
الإثنين أكتوبر 17, 2011 1:26 pm من طرف المشتاقة الي الجنة
» دموع الصومال
الإثنين أكتوبر 17, 2011 1:13 pm من طرف المشتاقة الي الجنة
» الرسول صلى الله عليه وسلم والصومال
الإثنين أكتوبر 17, 2011 1:05 pm من طرف المشتاقة الي الجنة
» هنا من موقع التوبة أعلنها توبة لله
السبت أكتوبر 15, 2011 4:21 am من طرف اسماء
» قصة طفل عمره 3 سنوات والله المستعان
الجمعة أكتوبر 14, 2011 10:15 am من طرف اسماء
» فوائد الصرصور..اخر زمنـ صار لهمـ فوائد بعد..
الخميس أكتوبر 13, 2011 12:40 pm من طرف المشتاقة الي الجنة
» ذابت قلوبنا من هم الدنيا
الخميس أكتوبر 13, 2011 12:36 pm من طرف المشتاقة الي الجنة
» لا تجعل الله أهون الناظرين إليك [ ذنوب الخلوات ]..!!!
الخميس أكتوبر 13, 2011 12:23 pm من طرف المشتاقة الي الجنة